اشترك في نشرتنا الإخبارية
باحث مشارك

٠١ يوليو ٢٠١٩

في أعقاب التحدِّيات التي أفرزها التحضُّر المتنامي وبصورة مقلقة للمدن حول العالم، أصبحت المدن الذكية هدفاً شائعاً بشكل متزايد للتخطيط الحضري الحديث. حيث تُعتبر الجهود التي تهدف إلى تحويل المدن إلى أماكن أكثر قابلية للعيش وأكثر ذكاءً واقتصاداً في الموارد ذات جدوى للحكومات والمخطِّطين العمرانيين، بالإضافة للخبراء في مجال السياسات وصناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على حدٍّ سواء، وذلك في إطار توسيع نطاق الفرص التجاريةـ وهنا يعتقد الخبراء أنَّ التكنولوجيا بتطوُّرها وابتكاراتها في العقود الأخيرة، قادرة تمامًا على تقديم أفضل الحلول الخاصة بالتحديات الحضرية التقليدية، والتي من شأنها تحسين أساليب حياتنا وتحقيق الاستدامة.

إنَّ الصعوبات الشائعة في المدن التي تواجه التحضُّر تكمن في زيادة الطلب على البنية التحتية والخدمات، وقيود التنقل، وتأخر الحصول على المساكن، ومحدودية الوصول إلى المياه النظيفة، وارتفاع مستويات التلوث، وإدارة النفايات، والاستدامة البيئية، وغيرها من المشكلات. وفي ظل وجود مثل هذه التحدِّيات، تواجه المملكة العربية السعودية ( أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم) ارتفاعاً حاداً في عدد سكان المناطق الحضرية بالإضافة إلى الطلب على البنى التحتيَّة، والذي نتج عن النمو الاقتصادي الهائل خلال حقبة السبعينات الماضية في أعقاب الازدهار الاقتصادي للنفط في المنطقة. وقد أدَّى النمو الهائل في أعداد السكان المواطنين والوافدين في المدن السعودية، إلى تطوير البنية التحتية والإسكان والأعمال التجارية على نطاق واسع. وإذا ما أردنا توصيف النمو الهائل لمعظم المدن السعودية الكبرى، فإنَّ مدينة الرياض تصبح خير مثال لهذه لظاهرة، حيث دُفِعت المدينة إلى النمو خارج حدودها. ومع وجود الكثافة المنخفضة ونمط النمو الأفقي، فإنَّ الرياض تُعاني حالياً من التشتُّت الحضري، مشاكل السلامة المرورية، مستويات عالية من انبعاثات الطاقة، الاعتماد الكبير على السيارة الخاصة فضلاً عن قصور في البنى التحتيَّة وعدم كفايتها.

وينبغي القول أنَّ المملكة العربية السعودية تحرص حالياً على التغلُّب على تلك المشاكل المذكورة أعلاه، من خلال العمل على استكشاف فرص جديدة وايجاد سبل لإعادة الجودة لمدنها الرئيسية. وفي هذا السياق، أطلقت وزارة الشؤون البلدية والقروية رسمياً أول برنامج للمدن الذكية في البلاد، من خلال مبادرة طموحة من قِبَل الحكومة لقيادة التحوُّل الذكي في المدن السعودية ودخولها العصر الرقمي. ووفقاً للوزارة، فقد تمَّ اختيار 17 مدينة في المرحلة الأولية من البرنامج، والتي تضم ما يقرب من 72 في المائة من سكان المملكة، وذلك لتنفيذ مشاريع حضرية ذكية.

وهذه النقلة التاريخية للمدن السعودية تحمل قيمة كبيرة، ليس فقط من أجل تقرير مصير المدن التي تجتاحها موجات التحضر، ولكن أيضا لمساهمتها المحتملة في تحقيق رؤية المملكة 2030 على المدى المتوسط والطويل، من أجل تحقيق الاقتصاد المستدام. وفي إطار هذه الرؤية وبرنامج التحول الوطني(1)2020 ، تهدف المملكة إلى تحسين بنيتها التحتية وتحقيق مستويات عالية من المعيشة والرفاهية الحضرية. حيث يتم استكمال هذا الجهد باستثمار ما قيمته 500 مليار دولار أمريكي، عبر الاستفادة منه في تحديث البنية التحتية لعدد 285 بلدية في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية(2).

وتُشير المبادرات المذكورة أعلاه، إلى أنَّ هناك جهوداً كبيرة يتم بذلها تستحق الثناء، وهي تهدف لتحقيق تنمية حضرية مستدامة في جميع أنحاء المملكة من خلال التوافق مع المبادرات التي أثبتت جدواها عالمياً. ومما لا شكَّ فيه أن برنامج المدن الذكية الجديد يمثل إحدى المبادرات الملائمة التي لها القدرة على دفع عجلة التنمية الحضرية على مستوى المملكة، بالإضافة إلى تقديم مساهمات كبيرة في الجهود العالمية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

لماذا تعتبر الحكومات المحليَّة عنصراً مهمَّاً للتحوُّل الحضري؟
وإذا أردنا أن نتحدَّث عن الحكومات المحلية فلابد هنا أن نتساءل عن أهميتها في التحوُّل الحضري، حيث لا يزال الكثير من النقاش حول برنامج المدن الذكية في المملكة مقتصراً على استخدام التكنولوجيا وآثارها المترتِّبة على تقديم الخدمات. وبالتأكيد لا جدال حول أهميَّة التكنولوجيا إلا أنها تمثل عنصراً واحداً فقط من مكوِّنات المدن الذكية، وبالتالي يجب أن يتحقَّق هذا المفهوم ويصبح أجندة كبيرة وشاملة للتنمية يتم من خلالها النَّظر الى المدينة الذكية كبيئة حيَّة تتكامل فيها التكنلوجيا مع الإدارة الفعَّالة.

إننا لا يمكن أن نتجاهل دور الحكومات المحلية، والتي لا تقل في الأهمية إن لم تكن تزيد عن جهود الحكومة المركزية. حيث تلعب الحكومات المحليَّة دورًا رئيسيًا في وضع أسس الحوكمة الذكية على المستوى المحلي، والاستفادة من مواطن القوة الاقتصادية للمدينة، وتنفيذ أجندة التنمية المستدامة.

تُعتبر الحكومات المحليَّة حاميةً للمدن وتعمل على تنفيذ مجموعة كبيرة من المهام التي تتراوح ما بين تحديد السياسات الحضرية، والقيام بتنمية البيئة المبنيَّة لدعم الحكومات المركزية والإقليمية في تنفيذ الأولويات الوطنية. يمكن للحكومات المحليَّة أن تزوِّدنا بمعلومات وصورة واضحة للديناميكيات المحلية، إلى جانب الثقافة والسمات الاجتماعية-الاقتصادية، والتي تعتبر ضرورية لبناء قاعدة لأي تدخلات ناجحة. إن الفهم الجيِّد لأوضاع الأحياء في المدينة يساعد على تحديد المناطق التي تحتاج إلى ترقية في مجال التكنلوجيا، والعمل للوصول إلى أفضل الحلول المخصَّصة لحل المشكلات الحالية.

وإذا ما نظرنا إلى العالم المتقدِّم حيث تتواجد التكنولوجيا في كل مجالاته الحياتية، نجد أنَّ الحكومات المحليَّة صارت تعتمد بشكل متزايد على التكنولجيا الذكيَّة وحلول تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في تقديم الخدمات الحضرية اليوميَّة. وقد نتج عن ذلك ليس فقط الاستخدام الفعَّال للموارد، وإنَّما أيضاً تحقيق تحُّسن في نمط الحياة الحضرية وتعزيز التواصل بين المواطنين. تتضمَّن الأمثلة المعروفة الشاهدة على ذلك المدن العالمية مثل طوكيو ولندن ونيويورك وزيوريخ وباريس وجنيف وبازل وأوساكا وسيول وأوسلو، والتي تُظهر قدراً كبيراً من النجاح في التحول الذكي للمدن.

الأدوار المحتملة التي يمكن أن تتبنَّاها الحكومات المحليَّة لدعم الأجندة الحضريَّة الجديدة
على الرغم من أنَّ البرنامج الجديد يحدِّد التصميم والخطط الأوليَّة للمدن المختارة بشكل عام، إلا أنَّه لا يتناول الأوضاع الحالية للحكومات المحلية في المدن المختارة وقدراتها الآنيَّة في دعم تنفيذ البرنامج. لذا يجب أن يُؤخذ بعين الاعتبار عند التفكير في العصر الحضري الجديد للمدن السعودية، ماهيَّة الأدوار التي يمكن أن تؤدِّيها الحكومات المحليَّة في تحقيق التنمية والنجاح للمدن الذكيَّة. لقد أظهرت التجارب السابقة المشابهة في جميع أنحاء العالم، أنَّ التدخلات الحاسمة للحكومات المحليَّة، يمكن أن تعمل كمنصة انطلاق لنجاح المدن الذكية.

ونظراً لدوره الهام، يأتي الوعي المجتمعي في صميم بناء مجتمعات ذكيّة. ويشمل ذلك إشراك المجتمع المدني، والأوساط الأكاديمية، ومجتمع الأعمال، والمجموعات الاجتماعية، والمنظمات غير الحكومية وروَّاد الأعمال الشباب في عملية التنمية. . ولذلك يجب العمل على تشجيع أصحاب المصلحة على إبداء الملاحظات على البرامج التجريبيَّة، والتعبير عن نوعيَّة المبادرات التي يأملون في رؤيتها في مدينتهم، إلى جانب كيف يمكنهم مساعدة إدارات الحكومة المحلية في تنفيذ الأفكار الذكيَّة. فضلاً عن ذلك، فإنَّ الإندماج الاجتماعي لا يقل أهميةً عن رفع مستوى الوعي. وذلك أنَّ إنشاء مدينة ذكيَّة ومستدامة يأتي إلى حدٍّ كبير من المشاركة الهادفة للمواطنين من جميع الأعمار، وبأجناسهم ومستويات دخولهم المختلفة.

إنَّ الوصول لبنية أساسيَّة من طرق ومرافق وكهرباء، وخدمات الصحة العامة والبنية التحتية الاجتماعية بصورة متوافقة في 17 مدينة مختارة، هي الخطوة الأساسية لمتابعة الجهود للأمام. كما يجب أن تأخذ البلديات زمام المبادرة في ذلك بالتعاون مع القطاع الخاص، وشركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ومطوري التطبيقات، وقطاع البحث والتطوير.

إنَّ مدى تكامل البنية التحتية والخدمات في المدينة يحدِّد بصورة كبيرة مدى ذكاء المدينة. لذلك يجب أن تقود البلديات جهود التكامل لخلق الترابط بين الفروع المحلية للوزارات على مستوى المدينة، وكذلك الإدارة الفعَّالة لأصحاب المصلحة المتعدِّدين المشاركين في عملية تحوُّل المدينة الذكيَّة. تؤدِّي الإدارة الفعَّالة للخدمات إلى الكفاءة في استخدام الموارد، وتوفير النفقات العامة، وتحسين الجودة الشاملة لتقديم الخدمات الحضرية. لذلك يجب أن تعمل شبكة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على تكامل المعلومات التي تسمح بدمج البيانات، وتحسين التنسيق، ووصول المواطنين للخدمات الحكومية، بما في ذلك العقارات والتصنيع الصناعي والمرافق وإدارة النفايات والسلامة والأمن والرعاية الصحية والتعليم والتنقل.

يعتبر التمويل المستدام لتنفيذ مشاريع المدن الذكية أحد أهم التحديات العالمية. وهنا يأتي دور الحكومات المحلية مرةً أخرى، وذلك عبر الضغط للحصول على المنح وتمويل المشاريع الذكية. وفي محاولة لتطوير طرق تمويل طويلة الأجل، وضمان عدم إعاقة تنفيذ المشاريع الجديدة بسبب القيود المالية، ينبغي على البلديات وفروع الوزارات تحديد الفرص للشراكات بين القطاعين العام والخاص، متى ما كان ممكناً، كما ينبغي كذلك وضع أنظمة تحكُّم ومراقبة قوية تساعد على عدم تعرض المواطنين للاحتيال.
وعلى المستوى الإقليمي، قد يشمل الدعم تسهيل الحصول على التمويل من الحكومة المركزية، والإشراف على التقدم في المشاريع المحليَّة. لذا فإنَّ وجود إطار فعَّال للرقابة والتنظيم على المستوى الإقليمي يعتبر أمراً مهمَّاً لمثل هذه المبادرات بالنسبة لروَّاد الأعمال الشباب. وكذلك يجب توفير بيئة لرعاية الشركات الناشئة الجديدة، تحت مظلَّة الدعم الحكومي لمساعدتها على تحمُّل المخاطر ورفع أفكارها التجارية.

إن التخطيط الحضري الذكي يعتبر بلا شك عاملاً أساسيَّاً مهمَّاً لتطوير المدينة الذكيَّة. وهذا يعني بالضرورة أن تختار البلديات الطرق الذكيَّة والمبتكرة والفعَّالة للقيام بالوظائف التخطيطيَّة، بما في ذلك تخطيط استخدام الأراضي، وتطوير البنية التحتية، وتقسيم المناطق، وصناعة الأماكن العامة، والإسكان، وتوسيع الخدمات، والحفاظ على المواقع التراثية، وتحسين البيئة، وتشجيع المشاركة العامة على المستوى المحلي، والعديد من الوظائف الأخرى. كما يجب أيضاً تطوير مؤشرات الأداء الرئيسية في كل قطاع، لقياس التقدُّم نحو تحقيق الأهداف المحدَّدة. وتعزو دول مثل سنغافورة، باعتبارها أحد روَّاد ثورة المدن الذكية، التخطيط الحضري الذكي كعنصر حاسم وفعَّال في تشكيل المدن الذكية(3).

من أجل تحقيق النجاح
إنَّ المُضي قُدُماً في طريق التخطيط الحضري المعاصر وُممارسات الإدارة الخاصة بذلك يعتبر أمراً بالغ الأهمية، ويتطلب من السلطات المحلية – المحرِّكات الحقيقية للتغيير – أن تكون مُزوَّدة بسلطات وموارد كافية. يشمل ذلك الاستقلالية المحلية ووضوح الأدوار والوظائف، إلى جانب القدرات المالية والتقنية لتطبيقها بطريقة ذكية. وعلى غرار كثير من الدول الأخرى التي تواجه الصِّعاب في تنفيذ أجندة المدن الذكيَّة، فإن المؤسسات المحليَّة في المملكة العربية السعودية مقيَّدة بالمتطلَّبات الضروريَّة المذكورة آنفاً.

وكما تمَّ تحديده في عددٍ من الدراسات التي أجراها مركز الإدارة المحليَّة، فإنَّ معظم المجالس البلديَّة السعودية تفتقر إلى الميزانية الكافية لأداء وظيفتها، كما تفتقر كذلك إلى قدرتها على التحكم بميزانيَّتها. هذه القيود الخاصة بالميزانية إلى جانب عجز المجلس عن إنفاقها على أفضل وجه ممكن، يضع علامة استفهام كبيرة للتمويل المستدام للمشاريع الذكيَّة. وفي تناقضٍ صارخٍ للوضع في دول مثل أستراليا وكندا، والتي تعتمد مجالسها البلدية إلى حد كبير على إيراداتها الخاصة، تتلقَّى المجالس البلدية السعودية ميزانيتها من وزارة الشؤون البلدية ومن الموظَّفين الإداريِّين من الأمانات (البلديَّات الأكبر على مستوى المنطقة).

أمَّا بالنسبة لمجالس المنطقة، فهي تفتقر أيضاً إلى الميزانيَّات الكافية لإجراء أبحاثها الخاصة، أو التحكُّم في ميزانية المنطقة لتحديد أولويات التنمية. وهذا مؤشِّر على الحاجة للإصلاحات عبر المؤسسات المحلية لتمكين الهيئات المحلية من المزيد من الاستقلالية الإدارية والمالية اللازمتَين لنجاح برنامج المدن الذكيَّة. وبالإضافة إلى ذلك، فإنَّ التوزيع الواضح للمهام وتقليل النزاعات التي تنشأ من التداخلات بين الجهات المنفِّذة هو التحدي الأول في هذا المجال.

تُعتبر المدينة الذكية هدفاً يَطمح الجميع لتحقيقه. وإذا ما أرادت المدن الوصول إلى هذه الغاية والنجاح في الدخول إلى العصر الرقمي، فإنَّ ذلك يتطلَّب إلى جانب الرؤية والجهود الوطنية المشاركةً الفعالةً من قِبَل السلطات المحلية في توطين الأجندة الوطنية من خلال تنفيذ التدخلات الذكية على نطاق الحي السكني. إنَّ القدرة الكافية والاستقلالية الذاتية للسلطات المحلية، تعتبران في غاية الأهمية لتحقيق الاستدامة في المناطق الحضرية. وفي خضم القدرة المحدودة للمؤسسات المحلية على قيادة مثل هذه الجهود، يجب أن يُزوَّد برنامج المدن الذكية السعودية بحكومة محليَّة تعمل بشكل جيِّد من أجل تمهيد الطريق السلس لنجاحها.

مصادر مفيدة
• المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة (2016). المدن الذكية والبنية التحتية. جنيف: لجنة العلوم والتكنولوجيا من أجل التنمية.
• RAVI، S.، TOMER، A.، BHATIA، A. and KANE، J. (2016). بناء المدن الذكية في الهند. بروكينغز الهند ومؤسسة بروكينغ، واشنطن العاصمة
• هيبورن ، ص. (2015). المدن الذكية: ما مدى الحكمة التي تحتاجها الحكومة المحلية؟ دروس من دراسة حالة عن المشاركة في إنشاء تطبيقات رقمية للمسنين. في: المؤتمر الدولي حول “المدينة المثالية: بين الأسطورة والواقع. التمثيل والسياسات والتناقضات والتحديات للحياة الحضرية في الغد”. معهد هيسيلتين للسياسة العامة والممارسة ، جامعة ليفربول.
• برنامج التحول الوطني السعودي 2020.
• سجل أبحاث مؤتمر المدن الذكية السعودية.

المزيد من المنشورات بقلم بلال صغير
الأعلى